محاضرات في المسؤولية المدنية عن الممارسة الطبية
النظام
القانوني للمسؤولية المدنية
عن الأعمال الطبية
المبحث الأول
التطور التاريخي لأحكام المسؤولية الطبية
يشير التاريخ الإنساني عبر المراحل المختلفة إلى أن موضوع المسؤولية الطبية ليس وليد اليوم كما يعتقد البعض بل عرفت الحضارات القديمة موضوع المسؤولية و فكرة الجزاء.
المطلب الأول
المسؤولية الطبية في الشرائع القديمة
الفرع الأول
المسؤولية الطبية عند الفراعنة
لعل خير دليل على ذلك أن عقوبة الطبيب عند الفراعنة كانت تصل إلى الإعدام عند خطئه، أو كان الطبيب عند عدم فلاحه في علاج المريض يلتمس العذر لنفسه من الإرادة العليا للآلهة حسب المعتقد سائر آنذاك عند الآشوريين.
الفرع الثاني
المسؤولية الطبية في شريعة حمورابي
أما شريعة حمورابي، ففيها العديد من النصوص التي تحدد أتعاب الطبيب عند إنقاذه حياة المريض، بحيث نصت المادة 215 منها على أنه: "لو أجرى طبيب عملية من الدرجة الأولى على سيد بمشرط من البرونز و أنقذ حياته أو فتح قناة الدمع في عين رجل و أنقذ عينه، يأخذ عشر شيكلات من الفضة".
كما نصت المادة 217 من ذات الشريعة على أنه: "و إن كان المريض عبدا، على مالك العبد أن يعطي الطبيب شيكلين من الفضة".
و نصت المادة 216 كذلك على أنه:" أما إن كان المريض من العامة فيأخذ خمسة شيكلات من الفضة".
كما حددت المواد من 221 و 223 من ذات الشريعة أتعاب الطبيب في حالة جبره لعظم مكسور و علاج العصب الملتصق بحيث نصت المادة 221 على أنه: " لو جبر الطبيب عظما مكسورا لرجل أو شفى عصبا ملتصقا على المريض أن يعطي الطبيب خمس شيكلات من الفضة"، كما نصت المادة 222 على أنه: " فإن كان المعالج من العامة يعطى الطبيب ثلاثة شيكلات من الفضة".
و نصت المادة 223 على أنه: " فإن كان عبدا فعلى مالك العبد أن يعطي الطبيب شيكلين من الفضة".
و نظمت المواد من 218 إلى 220 الجزاء المسلط على الطبيب المخطئ، بحيث نصت المادة 218 على أنه: " لو شق جراح جرحا عميقا في جسم رجل حر بمشرط من البرونز مما سبب أو فتح قناة أو مجرى الدمع في عين رجل مما عطل عين الرجل يقطعون يده".
كما نصت المادة 219 على أنه: " لو شق جراح جرحا عميقا في جسم عبد قروي بمشرط من البرونز مما تسبب في موته يعوض عبدا بعبد".
كما نصت المادة 220 على أنه: " أما لو فتح مجرى الدمع بحربة من البرونز فأفقده بصره يدفع نصف ثمنه فضة".
الفرع الثالث
المسؤولية الطبية عند الإغريق
كان الطبيب عند الإغريق يسأل جزائيا إن حدثت الوفاة بسبب تقصيره أو جهله ، أما إذا حدثت الوفاة رغما عنه فإنه لا يسأل جزائيا، و لعل ذلك مما دفع الفيلسوف أفلاطون يشكو عدم الرقابة على الأطباء بقوله: " إن الأطباء يأخذون أجرهم سواء عالجوا المرضى أو قتلوهم".
الفرع الرابع
المسؤولية الطبية في القانون الكنسي
أما في القانون الكنسي، فقد عرف القوط الشرقيين فكرة مسؤولية الطبيب بحسب اعتقادهم، بحيث إذا مات المريض بسبب جهل الطبيب و إهماله يسلم الطبيب إلى أسرة المريض الهالك و يترك لها الخيرة بين قتله أو اتخاذه رقا ، أما القوط الغربيين فكان الجزاء عندهم منح الطبيب أتعابه إن شفي المريض و حرمانه منها عند موته.
المطلب الثاني
المسؤولية الطبية عند المسلمين
أما عند المسلمين، فقد وضع حديث النبي صلى الله عليه و سلم ضوابط ممارسة مهنة الطب، بحيث قال عليه الصلاة و السلام: "من تطبب و لم يعلم منه الطب قبل ذلك فهو ضامن" .
و من ثمة حدد الأطباء القدامى و علماء الشريعة شروطا لانتفاء مسؤولية الطبيب في حالة الخطأ الطبي، أمثال الإمام ابن الجوزية –اللهم ارحمه- في كتابه الطب النبوي، فقد روي عن الخليفة في العهد العباسي (المقتدر) أنه منع جميع أطباء زمانه من ممارسة مهنة الطب إلا بعد إجراء امتحان لهم من قبل عميد الأطباء في زمانه (سنان بن ثابت بن قرة)، بحيث أنه روى أنه امتحن في بغداد آنذاك حوالي 800 طبيب، و كان هذا الامتحان بعد واقعة وفاة أحد المرضى بسبب خطأ في مداواته و تم تغريم الطبيب و حرمانه من ممارسة مهنة الطب.
المطلب الثالث
المسؤولية الطبية في العصر الحديث
أما في العصر الحديث، فقد اختلف الفقه حول فكرة مسؤولية أو عدم مسؤولية الطبيب، بحيث ذهب البعض إلى القول بعدم مساءلة الطبيب لخصوصية العمل الطبي ومحفوفيته بالمخاطر و المضاعفات التي لا يستطيع الطبيب تحاشيها مهما أوتي من خبرة و علم، كما أن مساءلة الطبيب فيها مساس لسمعته و لعل أهم حججهم تتمثل فيما يلي:
1. إن عدم الاعتراف منذ القدم بمسؤولية الطبيب دليل على خصوصية العمل الطبي و عدم احتوائه لفكرة الخطأ، كما أن سكوت القانون يدل دلالة واضحة على استبعاد المادتين 1382 و 1383 من القانون المدني الفرنسي و قانون العقوبات.
2. حصول الطبيب على المؤهل العلمي يعد اعترافا رسميا من قبل الدولة من كون الشخص مؤهل لممارسة مهنة الطب، فكيف يسأل عن الأفعال المرتبطة بنشاطه المهني، و إلا فإن شهادته العلمية ليست ذات قيمة علمية.
3. إذا كان المريض حرا في اختيار طبيبه، فهو من يتحمل عواقب سوء الاختيار.
4. خصوصية العمل الطبي و صعوبة الإثبات يستبعدان فكرة المسؤولية.
5. فتح باب مساءلة الأطباء يعرقل البحث والتقدم العلمي في الطب.
أما الفريق الذي نادى بفكرة المسؤولية و الذي كانت له الغلبة بتأييد من نصوص القانون و أحكام القضاء، فكان رده على أنصار عدم المساءلة على النحو الآتي:
1. إن معظم الشرائع القديمة قد عرفت فكرة مسؤولية الأطباء عن أخطائهم المهنية، و إن كان هناك اختلاف بينها، فذلك راجع إلى عدة عوامل، منها المعتقد و فكرة الخلط أو التفرقة بين المسؤولية المدنية و الجزائية، و فكرة الجزاء، فالمهم في كل ذلك هو مساءلة الشخص عن سلوكه المنحرف سواء كان شخصا عاديا أو محترفا كما هو حال أصحاب المهن كلها كالطب و الصيدلة و المحاماة ... إلخ.
2. إن المادتين 1382 و 1383 من القانون المدني الفرنسي لم يستبعدا خطأ الطبيب، بل أقرت مبدأ عاما هو مبدأ عدم الإضرار بالغير الذي يقتضي مساءلة كل شخص عن فعله الخاطئ أمام القضاء.
3. إن الشهادة العلمية المسلمة من قبل الدولة شرط مسبق لممارسة المهنة و ليست حصانة.
4. ينبغي عدم الخلط بين مسؤولية الطبيب عن خطئه و خطأ المريض في اختيار طبيبه المعالج.
5. جهل القاضي بالعمل الطبي و خصوصياته ليس ذريعة لعدم المساءلة، بحيث أنه معروف في العمل القضائي أن القضاء يستعين بالخبراء كل حسب تخصصه في القضايا المعروضة عليه.
6. مساءلة الأطباء لا تعرقل البحث العلمي، لأن الحضارات و الدول التي فصلت قواعد المسؤولية الطبية وصل فيها الطب إلى أعلى المستويات.
في بداية القرن التاسع عشر ظهرت في فرنسا نظرية تدافع عن الأطباء بنوع من الغلو، بحيث نادت بضرورة عدم مساءلة الأطباء عن أخطائهم تماما، لما في مساءلتهم من تقويض لحماس الأطباء في البحث عن سبل العلاج و الشفاء، فالطبيب لا يسأل عن أخطائه إلا أمام ضميره، غير أن هذه النظرية لم يلتفت إليها من قبل القضاء الفرنسي، بحيث قررت إحدى محاكم الاستئناف في قرار لها عام 1933 ما يلي: " إن الطبيب يسأل عن أخطائه شأنه شأن أي شخص يرتكب خطأ يحدث به ضررا للغير، و أن هذه المسؤولية تجد أساسها في قواعد المسؤولية التقصيرية وفقا للمواد 1382، 1383 من القانون المدني، فهذه القواعد واجبة التطبيق على كل ضرر يترتب على الرعونة أو الإهمال و عدم التبصر، سواء في نطاق عمل الأفراد العاديين أو نطاق عمل المهني والوظائف المختلفة".
إن هذا القرار القضائي و غيره كان لهم دور في تطوير أحكام المسؤولية الطبية، خاصة في ظل تطور علم الطب تطورا مبهرا، حتى قيل أن الطب قد تجاوز حدود مهمته الأصلية من وقاية و علاج، لتحقيق رغبة الإنسان غير العلاجية كما هو حال جراحة التجميل و التلقيح الاصطناعي بل و تطور الآلات الطبية قد زاد في فرص نجاح العمل الطبي، حتى بان الفشل في العلاج حدثا غريبا يثير الشك و الريبة و التساؤل.